الأحد، ٢٦ رجب ١٤٣٠ هـ

الدكتور بدر الدين غازي.. حبيب رحل



بقلم: شعبان عبد الرحمن


هذا رجلٌ تشهد له مدرجات الجامعات؛ حيث صال وجال في تربية الأجيال على العلم، وتشهد له ساحات المعامل الدراسية بجهوده المضنية في ترقية العقول وصناعة العلماء من أجيال الغد.. في صمتٍ ودون ضجيج، ويشهد له الآلاف من الطلاب في مصر والكويت واليمن والولايات المتحدة الذين عايشهم ورعاهم رعايةً علميةً وأبويةً بصورةٍ منقطعة النظير.

وقد كان يقوم بذلك كله باعتباره من صميم الدعوة إلى الله وإسهامًا في رسالةِ النهوض بالأمةِ من عثرتها.

ولم يكن الدكتور بدر الدين غازي أستاذ الكيمياء الفيزيائية في مصر والكويت وجامعة بنسلفانيا الأمريكية... لم يكن- رحمه الله- مجرَّد أستاذ يؤدي وظيفته أو محاضر يُلقي محاضرته ثم يعود إلى حياته الخاصة، وإنما كانت أبحاث طلابه في الدراسات العليا تملأ عليه جلَّ وقته، وكانت أبحاثه في معامل كليات العلوم تعيش فيه حتى اختطفت منه أثمن أوقاته وأولها أيام العطل والإجازات.

كان يركز اهتمامه التام على أمرين: حقيبته المكتظة بأبحاث أبنائه وجهاز حاسوبه الذي يقضي أمامه أوقاته دون اكتراثٍ بملبسٍ ولا مأكل ولا مسكن، فقد كان ذلك العملاق الحاصل على أعلى الشهادات العلمية في الكيمياء والفائز بأعلى شهادات التقدير والعضو البارز في العديد من الجمعيات العلمية كان بسيطًا بدرجةٍ ملفتة، ومتواضعًا بدرجة تخجل مَن يتعامل معه، وحتى اللحظات الأخيرة من حياته وهو على سرير المرض لم يتوقف عن متابعة أبحاث أولاده الطلاب- كما كان يحب أن يُسميهم- والعمل على سرعةِ إنجاز رسائلهم العلمية، ويشهد على ذلك زملاؤه الذين عايشوه بالمستشفى إذْ يؤكد أحدهم أنه كان يلحُّ عليه في الجلوس إلى جواره، ويظل يُملي عليه بعض الملاحظات على أبحاثِ طلابه حتى يدخل في غيبوبةٍ ممسكًا بيده، وإذا همَّ بالانصراف ضغط بيده على يده مشددًا عليه ألا ينصرف حتى يُنهي ما لديه.

هكذا رحل عنا منذ أيامٍ هذا العالم المتواضع بعد أن أنجز الإشراف على 35 رسالةَ ماجستير ودكتوراه في مصر والولايات المتحدة، وبعد مسيرةٍ علميةٍ مشرقة في جامعات مصر والكويت وأمريكا، وبعد جهودٍ كبيرةٍ في أربع جمعيات علمية مصرية وأمريكية (الجمعية المصرية للتآكل- جمعية الكيمياء الكهربية الأمريكية- الجمعية الكيميائية الأمريكية- المؤسسة الأمريكية للمهندسين الكيميائيين).

كان رجلاً ودودًا خلوقًا سريعًا ما يألفه مَن يلقاه حتى الأطفال مع آبائهم سرعان ما كانوا يندمجون معه، وقد أزالت تلك الصفات الطيبة حواجز كثيرة بينه وبين الناس.

تعرفتُ على ذلك الرجل بين عددٍ من الأكاديميين، وكانت حاستي الصحفية تدفعني للدخول معه في حواراتٍ ومناقشاتٍ أحيانًا ما تكون شائكةً لكن بساطة الرجل كانت تحولها إلى مناقشات مفيدة، وكلما تعمقت معه في النقاش كنت تجد مزيدًا من الآذان الصاغية، وعندما تختلف معه تجد نفسك أمام ساحةٍ فسيحةٍ من سعةِ الصدر، وكانت تعلو وجهه الطيب ابتسامة هادئة وهو يقرُّ لكَ ببعضِ ما عندك ولم ينتهِ نقاش معه إلا والقلوب أكثر تقاربًا، فقد كان يزرع فيمن يحاوره مزيدًا من الحب والاحترام.

وكما كان ذو خلق رفيع مع الخلق كان ذو خلق أرفع وأسمى مع الخالق، فقد استقبل ابتلاء المرض المفاجئ برضا وتسليم بقضاء الله ولم أره- كغيري من مئات الزائرين- خلال زياراتي له إلا مبتسمًا لقضاء الله بل كان يصبر بعض زائريه قائلاً بلغته البسيطة "أنا كويس خالص".

لقد كان الدكتور بدر الدين غازي مدرسة من طراز خاص في الحياة، وهي مدرسة نافعة ستظل ثمارها المتمثلة في هؤلاء الأساتذة المنتشرين في جامعات العالم من طلابه، وقبل كانت ثمارها في بيته العامر بأبناء وبنات بررة يقتفون أثر والدهم في حبِّ العلم ونيل أعلى الدرجات العلمية، ومن وراء ذلك بعد توفيق الله زوجة مجاهدة صابرة محتسبة، صمدت معه خلال مرضه بكل ما أُوتيت من جلدٍ وقوةٍ، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيها خير الجزاء وأن يرزقها المزيد من الصبر والثبات.

وبعد فقد عاش هذا العالم كغيرِهِ من العلماء بين طلابه ومعامله في صمت ورحل في صمت دون أن تعلم وسائل الإعلام عنه شيئًا لسبب معروف، وهو أننا في عصر الاضمحلال الذي اختلت فيه الموازين.. وكفي!.

أسأل الله سبحانه أن يرزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
-------
* مدير تحرير مجلة (المجتمع) الكويتية