الأحد، ٦ ربيع الأول ١٤٢٨ هـ


كسبنا المواطنة وخسرنا المواطن
بقلم: الأستاذ فهمي هويدي
أجب عن السؤال التالي: بماذا تفسر أن الذين تشبثوا بالنص على المواطنة في اولى مواد الدستور المصري، كانوا هم انفسهم الذين مرروا نصا آخر يفتح الباب على مصراعيه لإهدار بعض من أهم حقوق المواطن المصري؟
(1)
ذلك أن المراقب عن بعد، لا بد أنه استشعر درجة عالية من الطرب والنشوة وهو يتابع المناقشات التي جرت في لجان مجلس الشعب وعبر وسائل الاعلام المختلفة، والتي دارت حول حظوظ «المواطنة« في تعديلات الدستور. وهي التي تراوحت ما بين من تمسكوا بالنص على المصطلح في صلب المادة الأولى من الدستور، وبين من دعوا إلى ايراد المعنى وتقرير المبدأ في تلك المادة. افتح هنا قوسا لأذكر بأنني عبرت في اكثر من مناسبة عن رأيي في المسألة قلت فيه اننا بفتح ملفات المواطنة والدولة المدنية نعيد اختراع العجلة. بمعنى أننا نستدعي بدهيات استقرت في الخبرة الانسانية، ولم تعد موضوعا للجدال والمماحكة. فلم يعد هناك عاقل يعارض فكرة المواطنة أو ينكر مدنية الدولة، التي لم تعرف غيرها مجتمعاتنا العربية والاسلامية بامتداد تاريخها. وقلت انها شأن غيرها من العناوين البدهية فإن المناقشة الجادة حولها ينبغي أن تتجاوز السؤال «ماذا«؟ الذي عرفنا اجابته، الى السؤال «كيف«؟ الذي يفترض أن توضح لنا اجابته سبل تنزيل تلك العناوين على الواقع، بحيث تترجم الى حقوق وواجبات وضمانات تحميها. وإذ يلحظ المراقب أن التمسك بفكرة المواطنة، اقترن بالالحاح على مدنية الدولة فلا بد أن يتفاءل خيراً ببقية التعديلات، متوقعا أنها ستكمل المشوار من خلال رفع سقف الحريات العامة لـ «المواطنين« كافة وتوسيع قاعدة الدولة المدنية بما تقيمه من ابنية وهياكل وتقاليد. غير أن ذلك التفاؤل سرعان ما يتبدد، وتحل محله حيرة بالغة، خصوصا حين تستوقفه المادة رقم 179 التي اعتبرها أخطر ما في التعديل الدستوري، على الاقل من حيث انها اقرب المواد المعدلة الى المواطنين واكثرها مساسا بحقوقهم المدنية.
(2)
في التعديل الذي تم اقراره ويفترض ان يصوت مجلس الشعب عليه اليوم (الثلاثاء) بصورة نهائية، تنص المادة رقم 179 على ما يلي: تعمل الدولة على حماية الأمن والنظام في مواجهة اخطار الارهاب. وينظم القانون احكاما خاصة باجراءات الاستدلال والتحقيق التي تقتضيها ضرورة مواجهة تلك الاخطار، وذلك تحت رقابة من القضاء. وبحيث لا يحول دون تطبيق تلك الاحكام الاجراء المنصوص عليه في كل من الفقرة الاولى من المادة الـ 41 والمادة الـ 44 والفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور. ولرئيس الجمهورية ان يحيل اي جريمة من جرائم الارهاب الى اي جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون. هذا النص يثير مزيجا من الحيرة والقلق. فنحن اذا تغاضينا عن الاضطراب والخلل في شقه الاول، فسنجد أنه استحدث بعد ذلك موقفا مدهشا من الناحيتين القانونية والسياسية. إذ اعتبر أن قانون الارهاب مقدم على مواد الدستور الثلاث. وذلك أمر مستغرب لأن المفترض أن الدستور هو ابو القوانين وبالتالي فانه في حدوث التعارض، فإن نصوص الدستور هي التي تغلب وليس نصوص القانون. ثم ان المواد الثلاث التي اجاز التعديل تعطيلها لصالح تنفيذ القانون تتعلق بعناصر اساسية في حريات الناس وضماناتها.. كيف؟ تنص الفقرة الاولى من المادة الـ 41 المرشحة للتعطيل على أن الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصون لا تمس، وماعدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد او تفتيشه او حبسه، او تقييد حريته بأي قيد، او منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر عن القاضي المختص او النيابة العامة، وذلك وفقا لأحكام القانون. أما المادة الـ 44 فتنص على ما يلي «للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون«. والمادة الـ 45 تنص على أنه: «لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون وللمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا يجوز مصادرتها او الاطلاع عليها أو رقابتها الا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفقا لأحكام القانون«. اجازة تعطيل هذه المواد تعني أن الدستور يطلق يد اجهزة الأمن في القبض على خلق الله وحبسهم، ودخول بيوتهم وتفتيشها، ومراقبة مراسلاتهم واتصالاتهم وهتك اسرارهم الشخصية، كل ذلك من دون اذن من القضاء، وبناء على تقدير جهات الأمن وتحرياتها الخاصة. من ثم فبدلا من أن يلتزم المشرع فيما يصدره من قوانين بالنصوص الدستورية القائمة، اذا به يعطل حكم النصوص باعفائه تشريعا معينا من الالتزام بها. وهو امر مشكوك في سلامته من الناحية القانونية والدستورية. الذي لا يقل خطورة عما سبق، تلك الاشارة في نهاية المادة التي تخول رئيس الجمهورية حق تحويل أي جريمة من جرائم الارهاب الى اي جهة قضائية يرتئيها. وجه الخطورة التي ادعيها يكمن في أن ذلك الاجراء يخل بقاعدة المساواة بين المواطنين، إذ يحال بعضهم الى قضاء مدني والبعض الآخر الى قضاء عسكري، من دون استناد الى اساس موضوعي لذلك. ثم انه يتعارض مع نص دستوري آخر (المادة الـ 68) يقرر حق المتهم في المحاكمة امام قاضيه الطبيعي، سواء كان مدنيا أو عسكريا. في الوقت ذاته فانه يفتح الباب للتدخل في شئون القضاء المفترض استقلاله، حين تحال قضية دون غيرها الى قضاء معين. ناهيك عن أنه يجعل رئيس الدولة طرفا في الموضوع بغير مبرر، لأنه لن يحيل قضية الى هذه المحكمة او تلك إلا اذا احيط علما بمضمونها، على الاقل بالقدر الذي يمكنه من اصدار الاحالة وتوجيه المتهم الى القضاء الذي يريده.
(3)
تتجدد الحيرة ويتضاعف القلق اذا ادركنا ان التراجع الذي قررته المادة في ضمانات حريات المواطنين وحرمة مساكنهم واسرارهم ليس الوحيد في بابه، ولكن سبقه تراجع آخر في سقف الحريات العامة، قرره قانون سبق اصداره في عام 1992م لمكافحة الارهاب، عدل من بعض مواد قانون العقوبات. وكان التوسع في تعريف الارهاب من اهم سمات ذلك التعديل، الذي صاغ المادة رقم 86 من قانون العقوبات على النحو التالي: يقصد بالارهاب.. كل استخدام للقوة والعنف او التهديد او الترويع يستهدف الاخلال بالنظام العام او تعريض سلامة المجتمع وامنه للخطر (لاحظ التعبير الفضفاض) - اذا كان من شأن ذلك ايذاء الاشخاص او ترويعهم او تعريض حياتهم او حرياتهم او امنهم للخطر، او الحاق الضرر بالبيئة(!) او بالاتصالات او المواصلات او بالاموال او بالمباني أو بالاملاك العامة، او منع عرقلة ممارسة السلطات العامة، او دور العبادة او معاهد العلم لاعمالها، او تعطيل تطبيق الدستور او القوانين او اللوائح. هذا التعريف شديد الاتساع يدخل تحت مسمى الارهاب كل الحركات الاحتجاجية التي نصت عليها المواثيق الدولية، واعتبرتها حقوقا «للمواطنين«. اذ ما اسهل ان تعتبر أي معارضة اخلالا بالنظام العام، وما اسهل ان تعد أي مظاهرة للطلاب او اعتصام للعمال من قبيل تعطيل المواصلات او عرقلة اعمال معاهد العلم، او الاضرار بالبيئة! إلى جانب التوسع في تعريف الارهاب، ففي نصوص القانون توسع آخر في التجريم، بحيث لم يقتصر على معاقبة الفاعلين، وانما وسع بالارهاب «كل من روج بالقول او الكتابة أو بأي طريقة اخرى للأغراض المذكورة، وكل من حاز بالذات او بالوساطة او حرز محررات او مطبوعات او تسجيلات ايا كان نوعها، تتضمن ترويجا او تحبيذاً لشيء مما تقدم«. أما التشديد في العقوبات فحدث فيه ولا حرج. ذلك أن النصوص التي تعاقب من تنسب اليه الافعال بالسجن مددا تتراوح ما بين خمس سنوات والاشغال الشاقة المؤبدة، وقد تصل إلى الاعدام، ذلك فضلا عن تدابير احترازية اخرى، من قبيل تحديد الاقامة في مكان معين، او حظر التردد على اماكن بذاتها. وهي الاجراءات الاستثنائية التي وردت في قانون الطوارئ ضمن سلطات الحاكم العسكري، ولكنها اضيفت الى قانون العقوبات، بحيث اصبحت اجراءات عادية تطبق بحق أي مواطن عادي يشاء حظه العاثر ان يتورط في شيء من المحظورات السابقة الذكر. ما يصدمنا حقا ان يكون نص المادة رقم 179 في تعديلات الدستور، الذي يمهد لإصدار قانون جديد للإرهاب، يضاف الى التعديلات التي ادخلت على قانون العقوبات لمكافحة الارهاب، ذلك كله يمثل «الفاتورة« التي يتعين دفعها لالغاء قانون الطوارئ. وهو ما يدعو واحداً مثلي الى مراجعة موقفه، وتغيير كلامه، بحيث يتوسل لمن بيده الأمر أن يبقي على قانون الطوارئ كما هو، باعتباره اهون الشرور المعروضة علينا.
(4)
السؤال الذي طرحته في البداية يحتمل اكثر من اجابة، ذلك ان مفارقة التمسك بشعار المواطنة، ثم غض الطرف عن مسلسل اهدار حقوق المواطن يمكن ان تفسر بحسبانها من قرائن عدم الجدية. بمعنى أن الذين تمسكوا بالشعار والحوا على ضرورة النص عليه كان لهم هدف آخر غير الذي تصوره بعض حسني النية ممن رددوا الهتاف وساروا في المظاهرة. واذا سألتني ما هو ذلك الهدف الآخر؟ فردي انه أي شيء غير الحفاظ على حقوق المواطن. ثمة اجابة اخرى عن السؤال تؤيد ما ذهب اليه الدكتور زكي نجيب محمود ذات مرة في بعض ما كتب، مشيراً إلى أن من تقاليد البيروقراطية المصرية أن ملء الاستمارة او احالة الامر الى لجنة أهم من انجاز العمل وتحقيق المصلحة. واذا طبقنا الفكرة على المشهد الذي نحن بصدده فقد نجد أن الذين تمسكوا بالنص على المواطنة في المادة الأولى اعتبروا انهم ملأوا الاستمارة وأدوا ما عليهم. من ثم فإنهم لم ينشغلوا أو يكترثوا بما اذا كانت حقوق المواطن وضمانات حرياته قد توافرت أم لا. أستأذن هنا في أن اضيف اجابة ثالثة سبق أن اشرت اليها، خلاصتها أن الذين شاركوا في مناقشات تعديل مواد الدستور، تكلموا كحزب وطني في مواجهة الاخوان، او كإسلاميين ضد علمانيين، او مسلمين ومسيحيين، ولم يتحدثوا كمصريين ايضا، وهو ما ادى الى هيمنة الحسابات الفئوية والحزبية على المشهد، بحيث شغل كل طرف بما حصله لجماعته، وكانت النتيجة أن خرج المواطن المصري العادي - غير المشغول بهذه التصنيفات - خاسرا، إذ لم يجد احدا يراعي حقوقه ويحرسها
.

هناك تعليقان (٢):

غير معرف يقول...

.. الموضوع فكرنى بالنكته ان الطبيب اضطر يضحى بالام والجنين عشان نجاح العملية...بابا

شروق الشواف يقول...

شر البلية ما يضحك